فن

صلاح ابن الناظر: مانيفستو لتجاوز العلاقات السامة

كان فيلم الناظر مانيفستو مختصر عن التعافي من العلاقات الأسرية السامة، دون أن يقول شيئاً عن ذلك، ولربما هذا أجمل ما فيه.

future مشهد من فيلم الناظر ( النجوم من اليمين: حسن حسني، أحمد حلمي، علاء ولي الدين، محمد سعد)

كل حياة هي محاولة للانعتاق من الماضي. كل محاولة للتقدم إلى الأمام هي محاولة أصيلة لعدم الالتفات لذلك الماضي، حتى لو كان جاثماً على صدورنا، لكن في النهاية لا بد من تجاوز هذا الماضي للوصول إلى الحرية، ربما هذا كان ما يشغل بال آندي دوفرين وهو يحفر نفقه للهروب من شاوشانك، وما أراده كريس غاردنر من تخطي فشله التسويقي في بحثه عن السعادة، وهو بالضبط ما نجح في فهمه صلاح عاشور ابن الناظر عندما قاد مدرسة والده. أو كما يلخصها الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي أن: موت السابق شرط لا غنى عنه لكي يحصل الجديد على مجال لحياته.

هناك سر لذيذ في حكاية صلاح عاشور ابن الناظر، أو عدة أسرار تتكشف واحداً تلو الآخر، وربما لم يدر في خلد صناعه أنه فيلم عن «الأمل» الحقيقي -وليس الكاذب- في الحياة الشخصية.

التغيير الذي يطرأ لصلاح هو قصة نجاح أو رحلة صعود أو محاكاة لقصص الأبطال في الميثولوجيا الإغريقية، أو قصة عادية عن شاب يلاقي حب حياته بعد سوء حظ وإحباط، أو فيلم مبهج عن الأمومة وأثرها في حياتنا، أو مانيفستو مختصر عن التعافي من العلاقات الأسرية السامة، وقد يكون الفيلم هو كل تلك الأشياء دون أن يقول شيئاً منها؛ ولربما هذا أجمل ما فيه.

وأنت السبب يابا

في المستشفى، وفي اللحظات الأخيرة لوالد صلاح، لا يتوانى الرجل عن تقطيم ابنه وكسر نفسه، يخبره أنه فاشل وسيظل فاشلاً مهما حدث. لا يفكر الأب أنه السبب في كل الفشل الذي سقط فيه صلاح، ولا ينتبه للسمية التي دمر بها ابنه على مدار سنوات.

ما فعله عاشور الناظر وما كان يفعله هو محاكمة صلاح على كل شيء؛ دمار الأسرة، وانهيار المدرسة ومعها الإرث العائلي، والوزن الزائد على الحد لثلاثتهم، كل شيء تقريباً. مع وصلة التهزيق المستمرة، لا يرى صلاح نفسه سوى بعين والده، يقع في فخ تلك النظرة السامة لذاته وحياته، ولا يقتنع بشيء غيرها. يقف صلاح ويبكي بحرقة على الرجل الذي دمر حياته، دون أن يحلل هذا التدمير أو يواجهه. تنتبه أمه جواهر للمأساة التي يغرق فيها، فلا تنتظر أكثر من أن يلفظ العجوز آخر أنفاسه، لتخبر صلاح نصيحتها الذهبية: اللي حابسك خلاص مات.. أخرج، اتبسط، شوف الدنيا، شوفلك صاحب ولا صاحبة..

تعطي جواهر لابنها صلاح، ونحن معه، نصيحة وجودية مهمة: اخرج. ربما لأن المعنى كامن لديها في الخروج، كما كان في الحركة عند الشيخ عبدربه التائه، وما الخروج إلا نوع من الحركة.

الأم مدرسة بصحيح

جواهر، هي الشق الناجح في رحلة التجاوز التي يخوضها صلاح. لا نبالغ لو اعتبرناها ضمن أجمل أمهات السينما المصرية، بتركيبتها الغريبة تلك، والمستعصية على الفهم أحياناً، إلا أنها تجعل منها شخصية شديدة الجاذبية، وتكسب حب الجميع بسهولة.

لم تكن جواهر سعيدة في زواجها من ابن عمها عاشور الناظر، ولا ندري القصة الخلفية لزواجها، الذي غالباً لن يكون سوى زواج أقارب تقليدي، لكننا ندرك النفق المظلم التي دخلته تلك العلاقة، والتوتر والإهانة المحيطين بها، ولا ندري سبباً لاستمرار جواهر فيها. قد يكون سببها الوحيد هو الشعور بالذنب تجاه ابنها، أو بحد تعبير إيمان مرسال: يبدو الشعور بالذنب وكأنه الشعور الذي يوحد الأمهات على اختلافهن. إنه يكمن في المسافة التي تقع بين الحلم والواقع مثلما في البنوة والحب والعمل و الصداقة..

بعد وفاة زوجها، تجلس جواهر في العزاء وتقرر أن تضفي لمحة درامية على موته، مع بعض الشحتفة الكاذبة حتى لا تفقد هيبتها أمام نسوان العزاء، لكن فور انتهاء العزاء تخرج من قوقعة عاشور إلى رحابة الحرية، وتنفذ النصيحة التي قدمتها لابنها بحذافيرها.

كأي أم، تعشق جواهر ابنها، لكنها لا تسطيع حمايته تماماً من الأذى، تدرك جواهر تلك النقطة، وتدرك أيضاً أسباب «ميلة بخت» صلاح وضعف شخصيته، فتعمل فوراً على معالجة ذلك الميل. لا تحاوطه وتغلق عليه كل المنافذ، بل تسعى جواهر بابنها ليقتحم الدنيا ويصارعها فيدرك التغيير الحقيقي بنفسه، تدفعه إلى المدرسة في بدلة أبيه، وتأخذه من يده لتعرفه على الناس، وتحاول اختيار شريكة حياة مناسبة، وتتصالح مع فكرة أن يتغير صلاح ويكون له شخصية مختلفة عنها وعن ذاته القديمة، فتصفه بجملتها الخالدة «صلاح ابننا مش قاعد على بعضه، أصله بيموت في النسوان».

رحلة اكتشاف الذات الحقيقية

في تلك اللحظة لم يكن صلاح يموت في النسوان بمعناها الواسع، وإنما كان لا يزال شخصية خجولة ومحطمة، يتلمس خطواته الأولى في عالم ما بعد أبيه.

 ينفذ صلاح نصيحة أمه ويخرج إلى العالم، يذهب إلى المدرسة باعتباره وريث منصب الناظر، ليفاجأ أنه لا يعرف شيئاً عن التعامل مع الحياة، فيسعى إلى تحصيل كل ما ينقصه.

مثل أبطال الميثولوجيا، يجد صلاح نفسه في رحلة مغامرة للوصول إلى الكنز أو «الذات العليا» في نهايتها. يخرج من عالمه القديم: البيت والعلاقات السامة، إلى مملكته المدمرة: المدرسة.

في طريق مغامرته يواجه صلاح تحديات أقسى منه: خيانة الأستاذ سيد، بـ50 ألف جنيه طباشير أبيض لأن الأبيض درجات، ناظرة مدرسة البنات التي كان أبوه يشوط فيها.

لا يعرف صلاح كيف يتعامل مع كل تلك المطبات، فنصائح أمه لن تجعل التلاميذ يقبلون على المذاكرة، وخبرته المنعدمة في الحياة لن تسعفه كي يسيطر على المدرسين. يبدأ صلاح في البحث عما ينقصه، فيخبر رفيقه عاطف: صيعني يا عاطف، لتكون تلك الجملة المفتاحية في رحلته كبطل ميثولوجي. يبحث صلاح عن حكيم يعلمه أو: مينتور. فيلتقي بحكيمين: اللمبي والأستاذ حسين. يرشده اللمبي لطريقة الصياعة في الشوارع والتعامل مع المشاغبين، ويرشده حسين للصياعة الأدبية، كيف يقرأ الكتب ويدير المدرسة ويتقرب من تلاميذه. مع كل ذلك البحث، هناك شخص آخر يبحث عن صلاح، وهي الأستاذة وفاء، البنت الرقيقة التي جاءت لتدرس الموسيقى. يجد صلاح الحب في مملكته المحطمة، الحب الذي يعيد ثقته بنفسه ويقنعه أنه ليس فاشلاً.

في نهاية الرحلة، يصير صلاح شخصاً أفضل على كل الأصعدة، ويكتشف ذاته الحقيقية التي طمرت تحت طبقات من «التقطيم والتفشيل» المتتابع، أو كما يصف جوزيف كامبل رحلة البطل: «لسنا مضطرين لمواجهة خطر المغامرة وحدنا فأبطال الأزمنة القديمة دخلوا المتاهة قبلنا، علينا فقط أن نتتبع خيوطهم في مسار البطولة. وحيثما حسبنا أننا سنجد الدنس سنجد الرب، حيثما حسبنا أننا سنقتل آخرين سنقتل أنفسنا، حيثما حسبنا أننا مسافرون للخارج سنلج أعماق وجودنا ذاته».

يعيد صلاح تشكيل عالمه بما يراه هو. يزيح الأستاذ سيد عن المدرسة، ويهدي الأطفال ترابيزات بينج وبلياردو، يبتسم صلاح للحياة، لعاديته أنه يعلم أن ما فقد يمكن تعويضه، ويتقرب من وفاء أكثر، ليبرهن لنفسه أنه يمكن أن يحب ويحب كأي شخص.

بطل عادي لحياة ملحمية

كان صلاح ابن الناظر بطلاً، لكنه بطل عادي تماماً، بل أقل من العادي. ورغم تلك العادية فإنه بطل عابر للزمن.

أحياناً يعن لي تخيل حياة صلاح ابن الناظر  في زمن السوشيال ميديا، ماذا لو كان صلاح شاباً تويترياً؟ ربما كان اكتفى بدور الضحية، واستحلب حياته المدمرة، بسبب اضطهاد والده، وأمه المتصابية، وعن الإرث الأسود الذي يحمله. ربما كان صنع بودكاست يملؤه بشتيمة لوالده الذي لم يقدره، وولولة على الدنيا التي لم تنصفه، و«دس تراك» للأستاذ سيد والأخصام مجتمعين. ثم بعد أن يتفوق التلاميذ في المسابقة، ويعلو اسم المدرسة من جديد، كان سيخرج صلاح علينا بقناة يوتيوب يسطر فيها خطواته في ريادة الأعمال وإحياء المشاريع الفاشلة، ثم يضع صورة فورمال على لينكد إن، ويبيع لنا كورسات إدارة المدارس اللغات بالشيء الفلاني.

الجميل في صلاح أنه خلق ليؤسس للحياة بطريقة عكس كل ذلك. واجه حياته في هدوء، ونجح في مهمته بهدوء، واستطاع «التجاوز» في هدوء. ربما ذلك الهدوء هو سبب نجاح صلاح في مهمته، أن يستطيع التمرد على كل ما حوله دون أن يهد المعبد على من فيه. لا يكسر صلاح انتماءه للأسرة رغم ما أثقلته به، ففي أول لحظة له في المدرسة يخبر المدرسين أن يقفوا حداداً على أبيه، يقدم لحظة عرفان لرجل رحل ويعرف أن محاكمته لن تغير الواقع في شيء، ثم بعدها يبدأ في إزالة آثاره واحداً تلو الآخر من المدرسة، ويبدأ بنفسه تحديداً عندما يخلع البدلة الفضفاضة وغير المتناسقة، ليرتدي ملابس أكثر شبابية، وتظهر براءة ملامحه. تلك البراءة هي ما حصنت صلاح في رحلته، وجعلته أكثر قدرة على التجاوز والتصالح مع ذاته، وجعلته أكثر قدرة على الحلم والتفاؤل، أو كما يقول نجيب محفوظ في خاتمة ملحمة الحرافيش: «لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال..».

# السينما المصرية # سينما

فيلم Joker: Folie à Deux: حكاية تقلع بلا أجنحة
فيلم «المخدوعون»: فلسطين في مواجهة الرجال والشمس
فيكتور إيريس: العالم بقدم في الواقع وأخرى في الأحلام

فن